٢٦.١١.٠٥

التراث السرياني في الكنيسة الأرثوذكسية

تعيّد الكنيسة المقدسة في الحادي عشر من شهر تشرين الاول للقديس اسحق السرياني، المعروف ايضاً بإسحق نينوى، لا لانه سيم اسقفاً على هذه المدينة فحسب، بل تمييزاً له عن عدد من المعلمين الكنسيين الآخرين الذين يحملون ايضاً اسم "اسحق"، مثل اسحق الانطاكي واسحق الذي من الرها، وكلّهم من الاباء او الكتّاب الكنسيين الناطقين بالسريانية.
وجود جمهرة كبيرة من الآباء والمعلمين الكنسيين الانطاكيين المنتمين الى المدى اللغوي السرياني يفضي بنا حتماً الى طرح السؤال عن موقع الثقافة السريانية في تاريخ الكنيسة الانطاكية، ولا سيما ان الاباء الذين غالباً ما نذكرهم في اوساطنا او نسمع اسماءهم في الليتورجيا، مثل الاقمار الثلاثة واثناسيوس الكبير وكيرلس الاسكندري ويوحنا الدمشقي، ينتسبون، على اختلاف البقع التي ولدوا وعملوا فيها، الى الثقافة الكنسية اليونانية التي كانت سائدة في الامبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية) التي ترتبط الكنيسة الارثوذكسية بها ارتباطاً حميماً.
الحق ان الكنيسة الارثوذكسية لا تقيم فصلاً بين آبائها ومعلميها، سواء كانوا ناطقين باليونانية او اللاتينية او السريانية او العربية او الارمنية او الكرجية او اي لغة اخرى من اللغات التي تكلم بها المسيحيون في العالم القديم. فالانتماء الى المسيح ابعد واعمق من حدود اللغة المحلية، اياً تكن، رغم ان التبشير بالانجيل يجب ان يأتي دوماً في لغة محلية وثقافة محلية تؤثر ايضاً بدورها في الطريقة التي يتم فيها تقبل الانجيل في كل مكان من الامكنة.
ماذا عن التراث السرياني في كنيستنا؟ رغم ان التلاقي بين المسيحية والفلسفة في القرون الاولى كان موقعه الاساس الفكر المسيحي الناطق باللغة اليونانية، الا ان الكنيسة الانطاكية تميزت عن الكنائس القديمة الاخرى بالحضور القوي للثقافة السريانية. فانطاكية كانت موضع انصهار بين عناصر ثقافية مختلفة، ابرزها الى جانب اليوناني العنصر الآرامي المتمثل خصوصاً باللغة السريانية، وهي اهم فروع العائلة اللغوية الآرامية. والاكيد ان السريانية، شهدت انتشاراً واسعاً في مدينة انطاكية ذاتها عبر القرون الاولى رغم الطابع الهلّيني الذي كان يغلب على اوساط المثقفين في المدينة. ولنا مثال على ذلك القديس يوحنا الذهبي الفم الذي يدعو، في احدى عظاته، ابناء رعيته الناطقين باليونانية الى عدم احتقار المسيحيين السريان الآتين من الريف. اما خارج مدينة انطاكية فنجد، مثلاً، ثيودوريطس اسقف قورش، اهم لاهوتيي انطاكية في القرن الخامس، يشير الى ان المحليين من سكان ابرشيته ما كانوا ينطقون الا بالسريانية.
انتجت انطاكية السريانية تراثاً مسيحياً مميزاً بقي الى حد بعيد مخلصاً لاصوله المشرقية. ولقد راح هذا الانتاج اللاهوتي يفرض ذاته في القرن الرابع عبر مدرسة الرها (اورفا الحالية في تركيا) التي ارتبطت باسم القديس افرام السرياني (306 – 373). قصد افرام، المولود في نصيبين في بلاد ما بين النهرين، مدينة الرها في اواخر حياته والارجح انه مارس التدريس فيها، حتى ان التقليد نسب اليه تأسيسها. لئن كان افرام في خطّ المدرسة الانطاكية اليونانية من حيث تفاسيره للكتاب المقدّس التي تمتاز بالابتعاد عن الرمزية، الا ان فكره بعيد كل البعد عن مشاكل القرن الرابع اللاهوتية التي عرفها العالم اليوناني. ويرتبط هذا الفكر مباشرة بمعلمين مثل كليمنضس الاسكندري وثيوفيلوس الانطاكي. ويظهر هذا الاتجاه في ما نظمه افرام من اناشيد باللغة السريانية جعلته اهم الآباء السريان واحد ابرز شعراء الكنيسة. ولقد عرفت مدرسة الرها نشاطاً كثيفاً تتوّج بترجمة اعمال المعلّم الانطاكي ثيودوروس اسقف زينون مصيصة الى السريانية. الا ان المدرسة اقفلت بأمر من الامبراطور عام 489.
بعد اقفال مدرسة الرها، انتقل مديرها الشاعر السرياني نرساي الى بلاد فارس ليصبح هناك مدير مدرسة نصيبين اللاهوتية. ازدهرت مدرسة نصيبين في القرن السادس مخرّجة اساقفة وكتّاباً كنسيين لا يزال ذكرهم حياً في "كنيسة المشرق" المعروفة في اوساطنا اليوم باسم "الكنيسة الآشورية". بيد ان مدرسة نصيبين لم تكن الوحيدة في الامبراطورية الفارسية. اذ تذكر المصادر ايضاً مدرسة جنديسابور التي اسسها الملك الفارسي كسرى العام 530 ومدرسة بيت قطرايا (قطر) التي خرج منها في آخر القرن السابع المتصوّف الكبير اسحق نينوى او اسحق السرياني. وقد انتشرت اعمال هذا القديس في الكنائس الناطقة بالسريانية واليونانية على السواء، حتى ان بعض العارفين يرجحون ان اثرها امتد الى بعض المتصوّفة المسلمين.
يمتاز الارث المسيحي السرياني باستخدام الشعر، ما ادى الى تركيز الاناشيد السريانية على الرمز والمجاز والابتعاد عن التحديدات الفلسفية. واستمد هذا الشعر افكاره وموضوعاته من الكتاب المقدس خصوصاً. بعد ظهور الاسلام في القرن السابع وامتداده الى سوريا وبلاد فارس، لم ينحصر استعمال اللغة السريانية بالآشوريين والموارنة ورافضي مجمع خلقيدونية (451)، فلقد كان كثر من المسيحيين "الروم" في بلادنا ينطقون بالسريانية لذا، نجد معلمين كباراً على الايمان الخلقيدوني يتقنون السريانية ويؤلفون كتباً فيها ويشتركون في حركة الترجمة التي ازدهرت في العصر العباسي من اليونانية والسريانية الى العربية. كما بقوا يستعملون العربية حتى قرون متأخرة.


- النهار 6/11/2005 (عن "النشرة" التي تصدرها مطرانية بيروتالارثوذكسية بإشراف المتروبوليت الياس عودة).

٢٥.١١.٠٥

جرجس الخوري

المؤمن ينتظر الفرصة (1)


أوقف جريس الخوري بتهمة تفجير كنيسة سيدة النجاة منتصف آذار عام 1994، في وزارة الدفاع في اليرزة، لكنه خرج بصمت منذ فترة قصيرة الى الحرية.
من منزله المتواضع في ضبيه، ووسط ضجيج موسيقى الجيران تحدث جريس عن معاناته في السجن.
بمرح وحسرة، فيما الابتسامة لا تفارق وجهه الهزيل، وصف معاناته الطويلة.
"ما زلت في فترة راحة ومعالجة. فسنوات السجن الاثنتا عشرة، أنهكت قواي وأضعفت نظري. سؤ التغذية سبب لي ضعفا ً وآلاما ً في المعدة، وأنا في حاجة لنظام غذائي دقيق. فقدت عددا ً من أسناني ومعالجتها يتكفل بها طبيب صديق وسيدة مغتربة.
لم أطلب شيئا ً من أحد، لكنني لا أرفض المساعدة، وخصوصا ً ان وضع أهلي لا يسمح بدفع أي تكاليف، أخي وسام لا يعمل، وقد ضحى مثلي خلال أعوام سجني.
أريد أن أعود الى الجامعة للتخصص دراسات عليا في المال والاقتصاد الدولي، لكنني انتظر الحصول على دعم. اتكل دائما على الله الذي لم يتركني خلال محنتي الطويلة".
أضاف: "ايماني القوي ساعدني على تحمّل السجن والبرد والعطش والجوع والحرمان والالآم والضغط النفسي والتعذيب الجسدي. تعرضت للضرب في الاعوام الاولى، ومـَنعت عني الزيارات وحتى من المحامين. انقطعت نهائيا ً عن العالم ولم يبق لي سوى إرادة البقاء.
حرموني من كل حقوقي الانسانية وابسطها، ومـَنع عليّ وعلى أي كان المطالبة بأي حق انساني، فحتى معاية طبيب وقت المرض الشديد كانت ممنوعة".
"اعتبرت سجينا مجمرما ً، وبمجرد دخولي السجن جرّدوني من كل شيء حتى السبحة في يدي أخذوها مني. نمت بدون فرشة مع غطاء خفيف في أسوأ الظروف. عشت من دون أي غرض شخصي، حتى القلم والكتاب..."
وتابع الخوري سرد التفاصيل:" بعد الاعوام الثلاثة الاولى سَمح لي بقراءة الانجيل ومجلة فنية، لكن بعد حذف او تمزيق أي كلمة سياسية اذا وَجدت. الله أعطاني بصيرة التحليل، ومن خلال الصور كنت اعرف مجرى بعض الاحداث."
وتابع الخوري سرد التفاصيل: " لم افقد الأمل يوما ً، فأنا انسان بريء، أدخلت السجن في ظروف سياسية معينة وكنت أعرف انه سيفرج عني فور خروج السوريين او إثر حصول تغيير في النظام.
صحيح أني تعذبت، لكن صلاتي المتواصلة خففت عني عذابي. صلاة الوردية والعذراء مريم أبقتني حياً ومتأملا ً. اشكر الله وأريد أن أكمل حياتي بعيدا ً عن كل الهموم.
أتمنى السفر ومتابعة دروسي. لا أعرف كيف، لكن الله لن يتركني. أنا مؤمن متعبـّد للعذراء ولا أخشى شيئا ً."
جريس الخوري، ايمانك القوي وصلواتك المتواصلة أبقتك حيا ً وزادتك رجاء. أتمنى أن تنصفك الحياة، فتلقى المساعدة اللازمة وتتابع الدراسة التي حـُرمت منها.



ساميا مشلب

(1) النهار – ملحق الصحافيون الشباب، الاربعاء 16 تشرين الثاني 2005.

٢٤.١١.٠٥

المعضلة اللبنانية

ذات يوم جليدي من أيام الشتاء، تدانت جماعة من الشياهم (1) لتحتمي من البرد بحرارة أجسامها المتبادلة. غير أنها ما لبثت أن تباعدت بعد ما ضايقها آلام الوخز. وكان عليها أن تتدانى من جديد تحت وطأة البرد. فأحست ثانية بإزعاج الوخز المؤلم. واستمرت عملية التداني والتباعد إلى أن ظفرت بالوضع الذي أحست معه إنها في منأى عن الالام - شوبنهاور



(1) جنس حيوانات شبيه بالقنفد.

التعددية

”نريد أن تكون لكل مجموعة حضارتها وثقافتها في إطار بلد واحد وكيان واحد. لا نريد أن نفرض حضارتنا على أحد، كما لا نريد بأن يفرض أحد حضارته علينا. فليتعلموا تاريخهم وحضارتهم، ولنتعلم تاريخنا وحضارتنا، وكل ذلك في إطار بلد واحد.“ (1)


”إن الواقع المجتمعي اللبناني واقع جماعات وطوائف، إذ ثبت للمؤرخ وللباحث الاجتماعي على نحو قاطع أن كل جماعة وطائفة متمسكة بخصوصيتها. وليس في ذلك أي عيب، ولا يتناقض من حيث المبدأ مع إرادة العيش المشترك. إن التعددية في لبنان هي حقيقية أكدت ذاتها في كل المناسبات، وما علينا سوى تنظيم هذه التعددية على نحو تآلفي بدلاً من أن تكون على شكل تصادمي.“ (2)


التعددية (3)

التعددية كلمة تشمل مفاهيم كثيرة، منها: التعددية الثقافية، التعددية الحضارية، التعددية اللغوية، التعددية الدينية، والتعددية العرقية. في لبنان ما زال الكثيرون يرفضون الاعتراف بالتعددية كوصف عام. لهذا أحب أن أكتب باختصار عن التعددية كواقع في المجتمع اللبناني يغني ولا يرعب. لن ندخل في النفق التاريخي لسكان المنطقة لكن ما هو معروف ان ثمة شعبين يعيشان على أرض واحدة. فالشعب الارامي السرياني استوطن ما كان يعرف بالهلال الخصيب منذ آلاف السنين وتكونت لديه الهوية الارامية السريانية (من خصائص الهوية: الدين، اللغة، التاريخ والحضارة) وعند مجيء الفتح العربي قدمت معه شعوب اخرى استوطنت هي الاخرى الارض نفسها. من هنا ولدت التعددية في لبنان واصبح هناك شعب عربي مسلم وشعب سرياني مسيحي. لا يسعنا اذًا ان ننكر وجود شعب لخدمة نظرة ايديولوجية سياسية تنكر الحقيقة التاريخية. رغم التزاوج والتمازج الذي حصل عبر السنين، بقي لكل شعب حضارته وثقافته ودينه. أما لغويا فقد سيطرت اللغة العربية على اللغة السريانية التي كانت لغة متداولة حتى القرن الثامن عشر. وبما ان اللغة السريانية كانت اللغة الام لأبناء هذا الشعب، وهي اللغة التي تكلم بها السيد المسيح وهي لغة الكنيسة الانطاكية السريانية، يحاول المهتمون والمثقفون والواعون على تاريخهم اعادة احيائها وتعليمها وتعلمها (لأن الارض تصرخ بالسريانية فمعظم اسماء قرانا اللبنانية هي أسماء سريانية). اعتقد اننا نحتاج اليوم الى تنظيم ووعي الى هذه الحالة التي يرفض الكثيرون الاعتراف بها. ان احترام الخصوصية واحترام الحريات العامة يوصلنا الى العيش المشترك المريح كما يحصل في البلدان حيث هناك تعددية (كبلجيكا مثلا).

سامية مشلب
هيئة الثقافة السريانية



(1) بشير الجميل - لبنان الحرية والانسان – مؤسسة بشير الجميل (دير مار الياس – انطلياس بتاريخ 2/3/1977.
(2) بشير الجميل – الوعد، القرار والوفاء – مؤسسة بشير الجميل (جريدة القبس بتاريخ 13/12/1980).
(3) النهار – ملحق الصحافيون الشباب، الاربعاء 2 تشرين الثاني 2005.